الفصل التاسع والثلاثون
الحكم على يسوع بالصلب
بيلاطس، الذي لم يرد أَنْ يَعْرفَ الحقيقة، بل كَانَ حريصاً فقط أَنْ يَخْرجَ من المأزق بدون مشاكل، صار متردداً أكثرَ من ذى قبل؛ هَمسَ ضميره داخله : " أن يسوع برئُ " قالتْ له زوجته " إنه قدّيسُ " مشاعره المؤمنة بالخرافات جَعلته يَخَافُ من أنّ يكون يسوع فعلا عدواً لآلهته؛ وجبنه مَلأه بالُخوفِ لئلا يُنتقم يسوع لنفسه إن كان هو فعلا الرب. لقد كَانَ غاضَباً ومنتبّهَ لكلمات يسوع الأخيرةِ، وحاول مرة أخرى إطلاق سراحه؛ لكن اليهودَ هَدّدوه فى الحال إنهم سيتّهمونهِ أمام الإمبراطورِ. هذا التّهديد أفزعه، وقرر أن يذعن لرغباتهم، مع أنه مقتنعَ ببراءةِ يسوع بقوة، وواعيا تماماً أنه بنطق عقوبة الموتِ علي يسوع فإنه يَنتهكَ كل قوانينِ العدالةِ، هذا بالإضافة إلى نْكثُه بوعده الذى وعد به زوجته هذا الصّباحِ. وهكذا ضحى بيسوع، وسْعي إلى أن يرضى ضميره بغَسْلِ يديه أمام الشعب قائلا " إنى بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. فَانْظُرُوا أَنْتُمْ فِي الأَمْرِ!. " عبثاً تُعلنُ هذه الكَلِماتِ يا بيلاطس, لأن دمه على رأسك أيضاً؛ أنك لا تستطيع أن تغسلَ دماه لا عن نفسك، ولا عن يديك
ما أن تَوقّفَت تلك الكَلِماتِ المخيفةِ : " دمه علينا وعلى أولادنا " عن أن تَدوّي، حتى شرع بيلاطس فى إعداد حكم الموت. طَلبَ الرداء الذي يرتديه فى المناسباتِ الرسمية، وَضعَ تاجاً مرصع بمجموعة من الأحجار الكريمةِ على رأسه، غَيّرَ عباءته وجعل عصا أمامه. لقد كان مُحاطَاً بجنودِ وضبّاطِ المحكمةِ، وبعض الكتّبِة، الذين حَملواَ رقائق الكتابةِ وكتبِ تستعملَ لكِتابَةِ الأسماءِ والتواريخِ. سار رجلُ إلى الأمام وكان يحَملَ بوقاً. تقدَّم الموكبُ بهذا الترتيب من قصرِ بيلاطس إِلى الساحةِ، حيث يوجد مقعد مرتفع، يُستعمل فى هذه المناسباتِ الخاصةِ، موُضِوعَ قبالة العمود حيث جُلِدَ يسوع. هذه المحكمةِ تُدعِي جَبَّاثَا؛ أنها شرفة واسعةِ مستديرةِ، يُصَعدَ إليها بدرج؛ يوجد بها مقعدَ لبيلاطس، وخلف هذا المقعدِ منصة، ويصطف عددَ من الجنودِ حول الشرفة وكذلك على الدرج. غادر عديد من الفريسيون القصر ومضوا إلى الهيكلِ، وتبع حنان وقيافا وثمانية وعشرون كاهناً الحاكم الرّوماني إِلى الساحةِ، وأُخذا اللّصان إلى هناك في ذلك الوقت الذي قَدّمَ فيه بيلاطس مُخلصنا إِلى الشعب قائلا :" انظروا الرجل "
كان يسوع ما زالَ يكتسي بردائه الأرجواني وتاج الشّوك على رأسه، ويداه مقَيّدتان، عندما أحضره الجنود إِلى المحكمةِ، ووَضعاه بين الشّريرين. ما أن جلس بيلاطس، حتى بدأ يخاطب أعداءَ يسوع ثانية بهذه الكَلِماتِ " اَنْظرُوا ملككَم! " لكن نداءاتَ " أَصْلبه! أصلبه! ' دَوّت من كل جانبِ. قال بيلاطس " أأصْلبُ ملككَم؟ ". رَدَّ كبار الكهنة " لَيْسَ لنا ملكُ سوى قيصرَ!" .
وَجدَ بيلاطس أنه لا يجدي بالمرة أَنْ يَقُولَ أي شئ آخر، ولهذا شَرعَ فى إعداد حكم الموت. اللّصان كانا قد تلقيا الحكم بصلبِهما من قبل؛ لكن كبار الكهنة قَدْ حَصلوا على تأجيلِ لهما، من أجل أن يُصلب يسوع معهما ليَعاني عاراً إضافياً لَكُونُه يُصلب مع مجرمين من أردأ المجرمين. صليبا اللّصان كَانا بجانبهما؛ أما صليب يسوع لم يكن قد جُلب بعد، لأنه لم يكَنَ قد حُكمَ عليه بالموتِ حتى الآن.
اقتربتَ العذراء المباركة لتَسْمعَ النطق بعقوبة الموتِ على ابنها وإلهها. وَقفَ يسوع وسطِ الجنود، عند بداية السّلمِ الذى يُؤدّي إلى المحكمةِ. دوى البوق ليَطْلبَ الصمت، وبعده أعلن القاضي الجبان، بصوتِ مرتجفًِ مترددً، عقوبة الموتِ على الإنسان البارِ. أنهكني منظر جبنِ ونفاق هذا الإنسان، وكذلك بهجة الجلادين ووجوه كبار الكهنة الذين بدوا منتصرين، بالإضافة إِلى الحالة المحزنةِ التي وصل إليها مُخلصنا الحبيب، وأسى أمه الحبيبة, كل ذلك زِادَ من آلامي. نَظرتُ ثانية، ورَأيتُ اليهود القساة يَلتهمونَ تقريباً ضحيّتهم بأعينهم، الجنود يَقفونَ ببرود، وحشود من الشّياطينِ المروّعةِ تَعْبرُ ذهاباً وإيابا وتخَتلْط بالحشودِ. شَعرتُ أنّي كَانَ يجبُ أَنْ أكُونَ في موضع يسوع، عريسي الحبيب، لأن العقوبة حينئذ لَنْ تكون ظالمةَ؛ لكنى كنت مقهورة بالألمِ، وآلامي كَانت حادةَ جداً، حتى أنى لا أستطيع أَنْ أَتذكّرَ بالضبط كل الذي رَأيتُه. على أية حال، سوف أروى كل شئ تقريباً بقدر الإمكان